كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



فَإِنْ قِيلَ: أَيَجِبُ انْتِخَابُ جَمِيعِ أَهْلِ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ لِأَجْلِ الِاجْتِمَاعِ لِاسْتِنْبَاطِ الْأَحْكَامِ الْعَامَّةِ الَّتِي تَحْتَاجُ إِلَيْهَا الْأُمَّةُ فِي سِيَاسَتِهَا وَإِدَارَتِهَا الْعَامَّةِ أَمْ يُكْتَفَى بِبَعْضِهِمْ؟ أَقُولُ: الظَّاهِرُ أَنَّهُ يُكْتَفَى بِأَنْ يَقُومَ بِذَلِكَ مَنْ تَحْصُلُ بِهِمُ الْكِفَايَةُ بِرِضَى الْبَاقِينَ، فَإِذَا فَرَضْنَا أَنَّ الْمَمْلَكَةَ مُؤَلَّفَةٌ مِنْ مِائَةِ مَدِينَةٍ أَوْ نَاحِيَةٍ فِي كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا عَشَرَةٌ مِنْ أُولِي الْأَمْرِ الَّذِينَ يَثِقُ أَهْلُهَا بِعِلْمِهِمْ وَرَأْيِهِمْ، وَيَنْقَادُونَ لَهُمْ يَكُونُ مَجْمُوعُ أُولِي الْأَمْرِ أَلْفَ نَسَمَةٍ، فَإِذَا هُمُ اخْتَارُوا مِنْ أَنْفُسِهِمْ بِالِانْتِخَابِ، أَوِ الْقُرْعَةِ مِائَةً أَوْ مِائَتَيْنِ لِلْقِيَامِ بِمَا ذُكِرَ حَصَلَ الْمَقْصِدُ بِذَلِكَ وَكَانَ مَا يُقَرِّرُونَهُ إِجْمَاعًا مِنَ الْأُمَّةِ، وَيَرْجِعُ النَّاسُ إِلَى الْبَاقِينَ فِي الْأُمُورِ الْخَاصَّةِ بِمَكَانِهِمْ كَالشُّورَى فِي الْقَضَاءِ وَالْإِدَارَةِ، وَهَذَا مَا يَظْهَرُ لِي أَنَّهُ أَقْرَبُ مَا يَتَحَقَّقُ بِهِ الْعَمَلُ بِالْآيَةِ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: أُولُو الْأَمْرِ هُمْ أَهْلُ الْإِجْمَاعِ:
بَيَّنَّا أَنَّ أُصُولَ الشَّرِيعَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ هِيَ الْأَرْبَعَةُ الْمُبَيَّنَةُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَطَبَّقَ ذَلِكَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ الْأُصُولِيِّينَ عَلَى الْأُصُولِ الْأَرْبَعَةِ الَّتِي عَلَيْهَا مَدَارُ عِلْمِ أُصُولِ الْفِقْهِ- وَهِيَ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالْإِجْمَاعُ وَالْقِيَاسُ- وَجَعَلُوا الْآيَةَ حُجَّةً عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ الْإِجْمَاعِ، وَهِيَ لَعَمْرِي أَقْوَى دَلَالَةً عَلَيْهِ مِنْ آيَةِ: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى} [4: 115]، الْآيَةَ، بَلْ لَا تَدُلُّ هَذِهِ عَلَى الْإِجْمَاعِ الْأُصُولِيِّ كَمَا سَيَأْتِي فِي تَفْسِيرِهَا مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ، وَجَعَلُوا مَعْنَى رَدِّ الْمُتَنَازَعِ فِيهِ إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ هُوَ الْقِيَاسَ الْأُصُولِيَّ، وَاشْتَرَطُوا أَنْ يَكُونَ أَهْلُ الْإِجْمَاعِ هُمُ الْمُجْتَهِدِينَ، وَكَذَلِكَ أَهْلُ الْقِيَاسِ، وَعَلَى هَذَا يُشْتَرَطُ فِي أَعْضَاءِ مَجْلِسِ النُّوَّابِ الَّذِينَ يُسَمَّوْنَ فِي عُرْفِ الْعُثْمَانِيِّينَ بِالْمَبْعُوثِينَ وَفِي أَعْضَاءِ الْمَحَاكِمِ وَالْمَجَالِسِ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُجْتَهِدِينَ، وَلَا يَكُونُ لَهُمْ صِفَةٌ تَشْرِيعِيَّةٌ بِغَيْرِ ذَلِكَ، وَهَذَا هُوَ الَّذِي يُفْهَمُ مِنْ عِلْمِ الْأُصُولِ، وَقَدْ عَلِمْتَ رَأْيَنَا فِيهِ وَسَنَزِيدُكَ إِيضَاحًا.
قَالَ الرَّازِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ الْكَبِيرِ فِي الْمَسْأَلَةِ الثَّانِيَةِ مِنْ مَسَائِلِ الْآيَةِ:
اعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ آيَةٌ شَرِيفَةٌ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى أَكْثَرِ عِلْمِ أُصُولِ الْفِقْهِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْفُقَهَاءَ زَعَمُوا أَنَّ أُصُولَ الشَّرِيعَةِ أَرْبَعَةٌ: الْكِتَابُ، وَالسُّنَّةُ، وَالْإِجْمَاعُ، وَالْقِيَاسُ، وَهَذِهِ الْآيَةُ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى تَقْرِيرِ الْأُصُولِ الْأَرْبَعَةِ، أَمَّا الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ فَقَدْ وَقَعَتِ الْإِشَارَةُ إِلَيْهِمَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ}، فَإِنْ قِيلَ: أَلَيْسَ أَنَّ طَاعَةَ الرَّسُولِ هِيَ طَاعَةُ اللهِ فَمَا مَعْنَى هَذَا الْعَطْفِ؟ قُلْنَا: قَالَ الْقَاضِي: الْفَائِدَةُ فِي ذَلِكَ بَيَانُ الدَّلَالَتَيْنِ، فَالْكِتَابُ يَدُلُّ عَلَى أَمْرِ اللهِ، ثُمَّ نَعْلَمُ مِنْهُ أَمْرَ الرَّسُولِ لَا مَحَالَةَ، وَالسُّنَّةُ تَدُلُّ عَلَى أَمْرِ الرَّسُولِ، ثُمَّ نَعْلَمُ مِنْهُ أَمْرَ اللهِ لَا مَحَالَةَ.
ثُمَّ قَالَ فِي الْمَسْأَلَةِ الثَّالِثَةِ: إِجْمَاع الْأُمَّةِ حُجَّةٌ:
اعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ: {وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} يَدُلُّ عِنْدَنَا عَلَى أَنَّ إِجْمَاعَ الْأُمَّةِ حُجَّةٌ، انْتَهَى، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْصِيلُ كَلَامِهِ فِي إِثْبَاتِ ذَلِكَ وَرَدِّ قَوْلِ مَنْ قَالَ: إِنَّ الْمُرَادَ بِأُولِي الْأَمْرِ الْأَئِمَّةُ الْمَعْصُومُونَ، وَمَنْ قَالَ: إِنَّهُمُ الْأُمَرَاءُ وَالسَّلَاطِينُ، وَجَزْمُهُ بِأَنَّ الْمُرَادَ مَنْ يُمَثِّلُ الْأُمَّةَ وَهُمْ أَهْلُ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ.
ثُمَّ قَالَ فِي الْمَسْأَلَةِ الرَّابِعَةِ: حجية القياس:
اعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ} يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْقِيَاسَ حُجَّةٌ، وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ قَوْلَهُ: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ} إِمَّا أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ، فَإِنِ اخْتَلَفْتُمْ فِي شَيْءٍ حُكْمُهُ مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ فِي الْكِتَابِ أَوِ السُّنَّةِ أَوِ الْإِجْمَاعِ، أَوِ الْمُرَادُ فَإِنِ اخْتَلَفْتُمْ فِي شَيْءٍ حُكْمُهُ غَيْرُ مَنْصُوصٍ عَلَيْهِ فِي شَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ، وَالْأَوَّلُ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ عَلَى ذَلِكَ التَّقْدِيرِ وَجَبَ عَلَيْهِ طَاعَتُهُ فَكَانَ ذَلِكَ دَاخِلًا تَحْتَ قَوْلِهِ: {أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} وَحِينَئِذٍ يَصِيرُ قَوْلُهُ: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ} إِعَادَةً لِعَيْنِ مَا مَضَى وَإِنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ، وَإِذَا بَطَلَ هَذَا الْقِسْمُ تَعَيَّنَ الثَّانِي، وَهُوَ أَنَّ الْمُرَادَ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ حُكْمُهُ غَيْرُ مَذْكُورٍ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَكُنِ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: {فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ} طَلَبَ حُكْمِهِ مِنْ نُصُوصِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ رَدَّ حُكْمِهِ إِلَى الْأَحْكَامِ الْمَنْصُوصَةِ فِي الْوَقَائِعِ الْمُشَابِهَةِ لَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْقِيَاسُ، فَثَبَتَ أَنَّ الْآيَةَ دَالَّةٌ عَلَى الْأَمْرِ بِالْقِيَاسِ.
ثُمَّ أَوْرَدَ الرَّازِيُّ عَلَى الْأَخِيرِ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِرَدِّ الْمُتَنَازَعِ فِيهِ إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ تَفْوِيضَ أَمْرِهِ إِلَيْهِمَا وَعَدَمَ الْحُكْمِ فِيهِ بِشَيْءٍ، أَوْ إِلَى الْبَرَاءَةِ الْأَصْلِيَّةِ، وَأَجَابَ عَنْهُمَا بِإِسْهَابِهِ الْمُعْتَادِ، وَإِنَّنِي أَذْكُرُ عِبَارَةَ النَّيْسَابُورِيِّ فِي الْإِجْمَاعِ وَالْقِيَاسِ وَرَدِّ هَذَيْنِ الْإِيرَادَيْنِ- وَإِنْ تَقَدَّمَ بَعْضُهَا- لِأَنَّهُ اخْتَصَرَ فِيهَا مَا طَالَ بِهِ الرَّازِيُّ، قَالَ بَعْدَ مَا قِيلَ فِي مَسْأَلَةِ أُولِي الْأَمْرِ غَيْرُ مَا ادَّعَاهُ: وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ حَمْلَ الْآيَةِ عَلَى هَذِهِ الْوُجُوهِ غَيْرُ مُنَاسِبٍ تَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ الْمَعْصُومُ كُلَّ الْأُمَّةِ، أَيْ: أَهْلُ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ وَأَصْحَابُ الِاعْتِبَارِ وَالْآرَاءِ، فَالْمُرَادُ مَا اجْتَمَعَتْ عَلَيْهِ الْأُمَّةُ وَهُوَ الْمُدَّعَى.
قَالَ: وَأَمَّا الْقِيَاسُ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ}، إِذْ لَيْسَ الْمُرَادُ مِنْ رَدِّهِ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ رَدَّهُ إِلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ وَإِلَّا كَانَ تَكْرَارًا لِمَا تَقَدَّمَ، وَلَا تَفْوِيضَ عِلْمِهِ إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ وَالسُّكُوتَ عَنْهُ؛ لِأَنَّ الْوَاقِعَةَ رُبَّمَا كَانَتْ لَا تَحْتَمِلُ الْإِهْمَالَ وَتَفْتَقِرُ إِلَى قَطْعِ مَادَّةِ الشَّغَبِ وَالْخُصُومَةِ فِيهَا بِنَفْيٍ أَوْ إِثْبَاتٍ، وَلَا الْإِحَالَةَ عَلَى الْبَرَاءَةِ الْأَصْلِيَّةِ فَإِنَّهَا مَعْلُومَةٌ بِحُكْمِ الْعَقْلِ، فَالرَّدُّ إِلَيْهَا لَا يَكُونُ رَدًّا إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ، فَإِذَا رَدَّهَا إِلَى الْأَحْكَامِ الْمَنْصُوصَةِ فِي الْوَقَائِعِ الْمُشَابِهَةِ لَهَا فَهَذَا هُوَ مَعْنَى الْقِيَاسِ.
فَحَاصِلُ الْآيَةِ الْخِطَابُ لِجَمِيعِ الْمُكَلَّفِينَ بِطَاعَةِ اللهِ، ثُمَّ لِمَنْ عَدَا الرَّسُولَ بِطَاعَتِهِ، ثُمَّ لِمَا سِوَى أَهْلِ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ بِطَاعَتِهِمْ، ثُمَّ أَمَرَ أَهْلَ اسْتِنْبَاطِ الْأَحْكَامِ مِنْ مَدَارِكِهَا- إِنْ وَقَعَ اخْتِلَافٌ وَاشْتِبَاهٌ فِي النَّاسِ فِي حُكْمِ وَاقِعَةٍ مَا- أَنْ يَسْتَخْرِجُوا لَهَا وُجُوهًا مِنْ نَظَائِرِهَا وَأَشْبَاهِهَا، فَمَا أَحْسَنَ هَذَا التَّرْتِيبَ، انْتَهَى كَلَامُ النَّيْسَابُورِيِّ، وَالْأَظْهَرُ الْمُخْتَارُ أَنَّ رَدَّ مَا لَا نَصَّ فِيهِ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ يَتَحَقَّقُ بِعَرْضِهِ عَلَى مَا فِيهِمَا مِنَ الْقَوَاعِدِ الْعَامَّةِ كَالْيُسْرِ، وَرَفْعِ الْحَرَجِ مِنَ الْأُمَّةِ، وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يُخَيَّرُ بَيْنَ أَمْرَيْنِ إِلَّا اخْتَارَ أَيْسَرَهُمَا، وَكَمَنْعِ الضَّرَرِ وَالضِّرَارِ، وَكَوْنِ الْمَحْظُورِ لِذَاتِهِ يُبَاحُ لِلضَّرُورَةِ، وَالْمَحْظُورِ لِسَدِّ الذَّرِيعَةِ يُبَاحُ لِلْحَاجَةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَتِ الْإِشَارَةُ إِلَى هَذَا، وَيَلِي هَذَا عَرْضُ الْجُزْئِيَّاتِ فِي الْمُعَامَلَاتِ عَلَى أَشْبَاهِهَا، وَتَقَدَّمَ أَيْضًا أَنَّ الْمُرَادَ بِالرَّدِّ هُنَا: رَدُّ مَا يَتَنَازَعُ فِيهِ أُولُو الْأَمْرِ، وَأَمَّا مَا يَتَنَازَعُ فِيهِ غَيْرُهُمْ فِي الْأُمُورِ الْعَامَّةِ فَيُرَدُّ إِلَيْهِمْ عَمَلًا بِآيَةِ الِاسْتِنْبَاطِ [4: 83].
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: الْإِجْمَاعُ وَالِاجْتِهَادُ عِنْدَ الْأُصُولِيِّينَ:
قَدْ عَلِمْتَ أَنَّهُمْ جَعَلُوا الْآيَةَ حُجَّةً عَلَى أَنَّ الْإِجْمَاعَ أَصْلٌ مِنْ أُصُولِ هَذِهِ الشَّرِيعَةِ، وَرَأَيْتَ أَنَّ بَعْضَهُمْ يَقُولُ: إِجْمَاعُ الْأُمَّةِ، وَإِجْمَاعُ أَهْلِ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ الَّذِينَ يُمَثِّلُونَ الْأُمَّةَ، ثُمَّ إِنَّهُمْ صَرَّحُوا مَعَ ذَلِكَ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِهَذَا هُوَ الْإِجْمَاعُ الْأُصُولِيُّ فَمَا هُوَ تَعْرِيفُهُ؟
الْإِجْمَاعُ فِي اصْطِلَاحِ جُمْهُورِ الْأُصُولِيِّينَ: هُوَ اتِّفَاقُ مُجْتَهَدِي هَذِهِ الْأُمَّةِ بَعْدَ وَفَاةِ نَبِيِّهَا فِي عَصْرٍ عَلَى أَمْرٍ أَيِّ أَمْرٍ كَانَ، فَلَا عِبْرَةَ فِيهِ بِاتِّفَاقِ بَعْضِ الْمُجْتَهِدِينَ وَلَوِ الْأَكْثَرَ، وَلَا بِاتِّفَاقِ الْمُقَلِّدِينَ، وَلَا بِاتِّفَاقِ غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ، كَالَّذِينِ يَكْفُرُونَ بِبِدْعَتِهِمْ، وَالَّذِينَ يَجْعَلُونَ الْإِسْلَامَ جِنْسِيَّةً لَهُمْ لَا دِينًا، فَإِذَا فَرَضْنَا أَنَّ عَصْرًا خَلَا مِنَ الْمُجْتَهِدِينَ (كَمَا يَقُولُ جَمَاهِيرُ الْمُشْتَغِلِينَ بِالْعِلْمِ مِنَ الْمُنْتَمِينَ إِلَى السُّنَّةِ فِي هَذَا الْعَصْرِ)، وَاتَّفَقَ جَمِيعُ الْمُسْلِمِينَ فِيهِ عَلَى حُكْمٍ فِي وَاقِعَةٍ عَرَضَتْ لَيْسَ فِيهَا نَصٌّ شَرْعِيٌّ فَإِنَّ اتِّفَاقَهُمْ كُلِّهِمْ لَا يُعَدُّ إِجْمَاعًا، وَرُبَّمَا يَقُولُ مُتَفَقِّهَتُنَا: إِنَّهُمْ يَكُونُونَ بِذَلِكَ كُلُّهُمْ عُصَاةً لِلَّهِ تَعَالَى بِاجْتِهَادِهِمْ هَذَا، وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَقُولَ الْمُتَنَطِّعُ مِنْ هَؤُلَاءِ الْمُتَفَقِّهَةِ: إِنَّهُمْ إِذَا اسْتَحَلُّوا وَضْعَ الْحُكْمِ وَالْعَمَلَ بِهِ وَعَدَّهُ شَرْعِيًّا يَكُونُونَ مُرْتَدِّينَ عَنِ الْإِسْلَامِ، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ مِثْلِ هَذَا التَّنَطُّعِ الَّذِي يُجِيزُ عَقْلُ صَاحِبِهِ خَطَأَ الْمَلَايِينِ، وَيَقُولُ بِعِصْمَةِ الِاثْنَيْنِ فَأَكْثَرَ مِنَ الْمُجْتَهِدِينَ.
وَاعْتَبَرَ بَعْضُهُمْ وِفَاقَ الْعَوَامِّ لِلْمُجْتَهِدِينَ لِيَصِحَّ أَنَّ الْأُمَّةَ أَجْمَعَتْ، إِذْ عَبَّرَ بَعْضُهُمْ كَالْغَزَالِيِّ فِي التَّعْرِيفِ بِاتِّفَاقِ الْأُمَّةِ، وَعَبَّرَ فِي جَمْعِ الْجَوَامِعِ بِمُجْتَهِدِ الْأُمَّةِ لِصِدْقِهِ عَلَى الِاثْنَيْنِ فَأَكْثَرَ وَالْمُفْرَدُ الْمُضَافُ يَعُمُّ، وَأَرَادَ أَنَّهُ لَوْ لَمْ يُوجَدْ إِلَّا اثْنَانِ مِنَ الْمُجْتَهِدِينَ وَأَجْمَعَا وَجَبَ الْعَمَلُ بِإِجْمَاعِهِمَا بِشَرْطِهِ، وَلَوْ كَانَا امْرَأَتَيْنِ أَوْ عَبْدَيْنِ وَفِيهِ خِلَافٌ، وَهُنَاكَ خِلَافَاتٌ أُخْرَى فِي قُيُودِ الْحَدِّ وَمَفْهُومِهَا وَفِي مَسَائِلَ أُخْرَى تَتَعَلَّقُ بِالْإِجْمَاعِ.
وَقَالَ فِي كَشَّافِ اصْطِلَاحَاتِ الْفُنُونِ: الِاجْتِهَادُ فِي اصْطِلَاحِ الْأُصُولِيِّينَ اسْتِفْرَاغُ الْفَقِيهِ الْوُسْعَ لِتَحْصِيلِ ظَنٍّ بِحُكْمٍ شَرْعِيٍّ، وَالْمُسْتَفْرِغُ وُسْعَهُ فِي ذَلِكَ التَّحْصِيلِ يُسَمَّى مُجْتَهِدًا، ثُمَّ قَالَ: فَائِدَةٌ لِلْمُجْتَهِدِ شَرْطَانِ:
الْأَوَّلُ: مَعْرِفَةُ الْبَارِئِ تَعَالَى وَصِفَاتِهِ، وَتَصْدِيقُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمُعْجِزَاتِهِ وَسَائِرِ مَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ عِلْمُ الْإِيمَانِ، كُلُّ ذَلِكَ بِأَدِلَّةٍ إِجْمَالِيَّةٍ إِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى التَّحْقِيقِ وَالتَّفْصِيلِ عَلَى مَا هُوَ دَأَبُ الْمُتَبَحِّرِ فِي عِلْمِ الْكَلَامِ.
وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِمَدَارِكَ الْأَحْكَامِ وَأَقْسَامِهَا وَطُرُقِ إِثْبَاتِهَا وَوُجُوهِ دَلَالَتِهَا وَتَفَاصِيلِ شَرَائِطِهَا وَمَرَاتِبِهَا، وَجِهَاتِ تَرْجِيحِهَا عِنْدَ تَعَارُضِهَا وَالتَّفَصِّي عَنِ الِاعْتِرَاضَاتِ الْوَارِدَةِ عَلَيْهَا، فَيُحْتَاجُ إِلَى مَعْرِفَةِ حَالِ الرُّوَاةِ، وَطُرُقِ الْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ، وَأَقْسَامِ النُّصُوصِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْأَحْكَامِ وَأَنْوَاعِ الْعُلُومِ الْأَدَبِيَّةِ مِنَ اللُّغَةِ وَالصَّرْفِ وَالنَّحْوِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، هَذَا فِي حَقِّ الْمُجْتَهِدِ الْمُطْلَقِ الَّذِي يَجْتَهِدُ فِي الشَّرْعِ، وَأَمَّا الْمُجْتَهِدُ فِي مَسْأَلَةٍ فَيَكْفِيهِ عِلْمُ مَا يَتَعَلَّقُ بِهَا وَلَا يَضُرُّهُ الْجَهْلُ بِمَا لَا يَتَعَلَّقُ بِهَا، هَذَا كُلُّهُ خُلَاصَةُ مَا فِي الْعَضُدِيِّ وَحَوَاشِيهِ وَغَيْرِهَا. اهـ.
وَإِنَّنِي أَذْكُرُ لَكَ خُلَاصَةَ مَا فِي كِتَابِ جَمْعِ الْجَوَامِعِ فِي ذَلِكَ، وَهُوَ أَنَّ الْمُجْتَهِدَ عِنْدَهُمْ هُوَ الْفَقِيهُ، وَيُشْتَرَطُ فِي تَحَقُّقِ الِاجْتِهَادِ أَنْ يَكُونَ بَالِغًا عَاقِلًا ذَا مَلَكَةٍ يُدْرِكُ بِهَا الْمَعْلُومَ، فَقِيهَ النَّفْسِ، عَارِفًا بِالدَّلِيلِ الْعَقْلِيِّ، أَيِ- الْبَرَاءَةِ الْأَصْلِيَّةِ- ذَا دَرَجَةٍ وُسْطَى فِي اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ وَفُنُونِهَا مِنَ النَّحْوِ وَالصَّرْفِ وَالْبَلَاغَةِ، وَالْأُصُولِ وَالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَصَرَّحَ بِأَنَّهُ يَكْفِي فِي زَمَانِنَا الرُّجُوعُ إِلَى أَئِمَّةِ الْحَدِيثِ، أَيْ: إِلَى مُصَنَّفَاتِهِمْ فِي الْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ وَمَا يَصِحُّ وَمَا لَا يَصِحُّ، وَبِأَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ عِلْمُ الْكَلَامِ، وَلَا الذُّكُورَةُ، وَلَا الْحُرِّيَّةُ، فَيَجُوزُ أَنْ يَتَأَلَّفَ الْمُجْتَهِدُونَ أَهْلُ الْإِجْمَاعِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْعَبِيدِ.
أَقُولُ: لَيْسَ تَحْصِيلُ هَذَا الِاجْتِهَادِ الَّذِي ذَكَرُوهُ بِالْأَمْرِ الْعَسِيرِ وَلَا بِالَّذِي يُحْتَاجُ فِيهِ إِلَى اشْتِغَالٍ أَشَقَّ مِنَ اشْتِغَالِ الَّذِينَ يُحَصِّلُونَ دَرَجَاتِ الْعُلُومِ الْعَالِيَةِ عِنْدَ عُلَمَاءِ هَذَا الْعَصْرِ فِي الْأُمَمِ الْحَيَّةِ كَالْحُقُوقِ وَالطِّبِّ وَالْفَلْسَفَةِ، وَمَعَ ذَلِكَ نَرَى جَمَاهِيرَ عُلَمَاءِ التَّقْلِيدِ مَنَعُوهُ فَلَا تَتَوَجَّهُ نُفُوسُ الطُّلَّابِ إِلَى تَحْصِيلِهِ.
وَظَاهِرٌ أَنَّ تَعْرِيفَ جُمْهُورِ الْأُصُولِيِّينَ لِلْإِجْمَاعِ وَتَخْصِيصَهُ بِالْمُجْتَهِدِينَ الْمَعْرُوفِينَ بِمَا ذُكِرَ لَا يَتَّفِقُ مَعَ قَوْلِ الْقَائِلِينَ: إِنَّهُمْ أَهْلُ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ، وَلَا عَلَى الْمَصْلَحَةِ الْعَامَّةِ، فَإِنَّ الْعَالِمِينَ بِمَا ذَكَرُوهُ مِنْ شُرُوطِ الْمُجْتَهِدِ، لَا يَعْرِفُونَ مَصَالِحَ الْأُمَّةِ وَالدَّوْلَةِ فِي الْأُمُورِ الْعَامَّةِ كَمَسَائِلِ الْأَمْنِ، وَالْخَوْفِ، وَالسِّلْمِ وَالْحَرْبِ وَالْأَمْوَالِ وَالْإِدَارَةِ وَالسِّيَاسَةِ، بَلْ لَا يُوثَقُ بِعِلْمِهِمُ الَّذِي اشْتَرَطُوهُ فِي أَحْكَامِ الْقَضَاءِ فِي هَذَا الْعَصْرِ الَّذِي تَجَدَّدَ لِلنَّاسِ فِيهِ مِنْ طُرُقِ الْمُعَامَلَاتِ مَا لَمْ يَكُنْ لَهُ نَظِيرٌ فِي الْعُصُورِ الْأُولَى فَيَقِيسُوهُ بِهِ.
ثُمَّ إِنَّ مَا ذَكَرُوهُ فِي تَعْرِيفِ الِاجْتِهَادِ وَالْمُجْتَهِدِ لَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الْمُجْتَهِدُونَ مَعْصُومِينَ فِي اتِّفَاقِهِمْ عَلَى الْأَمْرِ الَّذِي يُسَمَّى إِجْمَاعًا، وَلاسيما عَلَى قَوْلِ الْجُمْهُورِ الَّذِينَ يُجِيزُونَ إِجْمَاعَ الْعَدَدِ الْقَلِيلِ كَالِاثْنَيْنِ وَالثَّلَاثَةِ، وَغَلَا بَعْضُ أَهْلِ الْأُصُولِ، فَقَالُوا: إِنَّ عِصْمَتَهُمْ كَعِصْمَةِ النَّبِيِّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ، وَجَعَلَ بَعْضُهُمْ مِنْ ذَلِكَ اتِّفَاقَهُمْ عَلَى الْعَمَلِ، وَإِنْ لَمْ يَصْدُرْ مِنْهُمْ قَوْلٌ فِيهِ، فَقَالُوا: فِعْلُهُمْ كَفِعْلِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاخْتَارَهُ الْجُوَيْنِيُّ خِلَافًا لِلْبَاقِلَّانِيِّ، وَصَرَّحُوا بِأَنَّ وُقُوعَ الْخَطَأِ مِنْهُمْ مُحَالٌ، أَخَذُوا هَذَا مِنْ كَوْنِ الْأُمَّةِ لَا تَجْتَمِعُ عَلَى ضَلَالَةٍ وَهَذَا مَعْنًى آخَرُ، عَلَى أَنَّهُمْ يُجِيزُونَ خَطَأَ الْأُمَّةِ كُلِّهَا إِذَا خَلَتْ مِنَ الْمُجْتَهِدِينَ كَمَا تَقَدَّمَ، فَنَسْأَلُ اللهَ تَعَالَى أَنْ يَحْفَظَ عَلَيْنَا الْعَقْلَ وَالدِّينَ، وَنَحْمَدُهُ أَنْ كَانَتْ هَذِهِ الْآرَاءُ مُخْتَلَفًا فِيهَا بَيْنَ الْبَاحِثِينَ، حَتَّى مَنَعَ بَعْضُهُمْ هَذَا الِاجْتِمَاعَ أَلْبَتَّةَ وَأَحَالَهُ، وَبَعْضُهُمْ لَمْ يَعْتَدَّ بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ، وَاعْتَدَّ بَعْضُهُمْ بِإِجْمَاعِ الْعِتْرَةِ النَّبَوِيَّةِ، وَبَعْضُهُمْ بِإِجْمَاعِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ فِي الْعَصْرِ الْأَوَّلِ، وَاشْتَرَطَ بَعْضُهُمْ عَدَدَ التَّوَاتُرِ، وَبَعْضُهُمْ مُوَافَقَةَ الْعَوَامِّ.
وَبَعْدَ هَذَا وَذَاكَ نَقُولُ: إِنَّ حَصْرَ الْمُجْتَهِدِينَ بِالْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرُوهُ لَا يُمْكِنُ، وَالْعِلْمُ بِاتِّفَاقِهِمْ عَلَى تَفَرُّقِهِمْ لَا يُمْكِنُ؛ وَلِهَذَا قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: إِنَّ هَذَا الْإِجْمَاعَ الْأُصُولِيَّ غَيْرُ مُمْكِنٍ، وَإِذَا أَمْكَنَ فَالْعِلْمُ بِهِ غَيْرُ مُمْكِنٍ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يُمْكِنُ الْعِلْمُ بِالْإِجْمَاعِ السُّكُوتِيِّ دُونَ الْقَوْلِيِّ، وَهُوَ مُخْتَلَفٌ فِي كَوْنِهِ إِجْمَاعًا، قَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّهُ حُجَّةٌ ظَنِّيَّةٌ لَا إِجْمَاعٌ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّهُ لَيْسَ بِإِجْمَاعٍ وَلَا حُجَّةٍ، وَالْقَوْلَ الثَّالِثَ: إِنَّهُ إِجْمَاعٌ ظَنِّيٌّ، وَقَدْ يُقَالُ: السُّكُوتِيُّ لَا سَبِيلَ إِلَى الْعِلْمِ بِهِ أَيْضًا؛ لِأَنَّ عَدَمَ الْعِلْمِ بِالْقَوْلِ مِنْ زَيْدٍ لَا يَقْتَضِي عَدَمَ صُدُورِ الْقَوْلِ مِنْهُ، وَكَانَ يُطْلِقُ بَعْضُ السَّلَفِ الْإِجْمَاعَ عَلَى الْمَسْأَلَةِ الَّتِي رُوِيَتْ عَنْ جَمْعٍ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَلَمْ يُنْقَلْ أَنَّ أَحَدًا خَالَفَهُمْ فِيهَا، وَهَذَا غَيْرُ الْإِجْمَاعِ الَّذِي يَعْتَدُّ بِهِ جُمْهُورُ الْأُصُولِيِّينَ.